تحتاج سياسة النظام الحالي بعد انقضاء النصف الاول من مأموريته الاولى الى تقييم، كما يحتاج الرأي العام والساحة السياسية الى رأي سياسي حصيف وقراءة متأنية للواقع واستشراف للمستقبل يشارك فيه المهتمون وتتزاحم فيها الافكار بعيدا عن اساليب القدح والتخوين والمواقف المسبقة التي طغت على فضاءات التواصل الاجتماعي.
سنحاول في هذه الاسطر تقديم تقييمنا الشخصي والذي يتقاطع في معظم جوانبه مع اراء أغلبية صامتة في صف الرئيس وخارجه، مع تذكير بالظروف التي ولد فيها النظام الحالي وبالاحداث التي رافقت تلك النشأة حسب تأثيرها وتسلسلها الزمني.
الميلاد من رحم مأمورية ثالثة..
لم تكن ولادة النظام الحالي يسيرة كما يصور البعض بل كانت نتاج مخاض عسير بدأ بوضع العراقيل امام مقترح ترشيح وزير الدفاع حينها محمد ولد الشيخ الغزواني عبر حراك ما سمي بالمأمورية الثالثة ولم ينتهي بالتضييق عليه واحراجه قبل الانتخاب وبعد التنصيب.
جدل المأمورية الثالثة حسمه بيان غير موقع وبلا رأسية أذيع دون سابق اعلان دقائق قبل عرض مشروع التمديد على البرلمان قيل وقتها أنه صادر عن رئاسة الجمهورية وأعقبه مسار انتخابي كان فيه بعض داعمي المرشح اخطر عليه من منافسيه.
خطاب الفاتح من مارس..
كان خطاب الفاتح من مارس 2019 اول لقاء مباشر بين الموريتانيين ورجل سمعوا عنه الكثير ولم يسمع منه اغلبهم قبل ذلك اليوم، لقد شكل ذلك الخطاب شكلا ومضمونا نقطة فارقة في مسار الرجل السياسي وأثر في رأي وتوجه مختلف الناخبين أكثر من تأثير حملة دعائية امتدت لأشهر طبعتها المكائد واختلاف الاهداف والاهواء.
الخطاب الذي حمل للموريتانيين اعلان مصالحة مع الماضي وفتح آفاقٍ للمستقبل دفع الآلاف تطوعا لتشكيل مبادرات شعبية داعمة خرجت عن طوع الاحزاب والتنظيمات السياسية ورسم المشاركون فيها صورة مصغرة لموريتانيا بكل جهاتها وتوجهاتها.
تحديات البداية وحسم المرجعية..
لا يخفي على اي مشارك في الحملة الرئاسية حجم الصعوبات التي واجهت الداعمين للمرشح من خارج دائرة المأمورية الثالثة وما صاحب تلك الصعوبات من غياب التنظيم ونقص التمويل رغم ضخامة التبرعات المالية والاموال المرصودة للحملة الرئاسية، لقد طبعت الفوضى والتنافس الشخصي كل مسارات الحملة كما اضرت طريقة اخراج المشهد المدروسة بعناية من الطرف الآخر بالمرشح اكثر من ما خدمته فحاولت اظهاره كخيار ضرورة ونائبا لرئيس حاضر بقوة في كل التفاصيل، رئيس سيغادر السلطة بعد ايام لكن لا شيئ من تصرفاته يوحي انه سيغادر المشهد.
اختتم المسار الانتخابي بإعلان حالة الطوارئ وقطع شبكة الانترنت وانزال الجيش للشارع يوم اعلان النتائج، احداث حرمت انصار المرشح الاحتفال بالفوز ووضعت البلاد في حالة لا تمت الى الفعل الانتخابي بصلة.
بعد تسلم مقاليد السلطة رسميا، استمر جو التشويش والارباك وحاولت نفس الجماعة تصوير الرئيس الجديد كظل للمنصرف او استمرارا للنهج السابق في احسن الاحوال كما وصفه الناطق الرسمي للحكومة في زلة ما كان يجب ان تمر دون عقاب، لكن عودة الرئيس السابق وما عرف حينها بأزمة المرجعية شكل فرصة الرئيس الجديد للتخلص من تبعات الحملة وتصحيح الصورة والمسار.
نجحت ازمة المرجعية في تفكيك النواة الصلبة للنظام القديم لكنها فشلت في خلق بديل مقبول وقابل للاستمرار، فتم ابقاء الوضع على ماهو عليه ما افقد الحزب الحاكم الكثير من زخمه وابقاه خارج الفعل والتأثير ومعه الاغلبية الداعمة للرئيس، لقد كانت تلك الفرصة اولى الفرص الضائعة لخلق قطيعة نهائية مع المرحلة السابقة وبدء نهج جديد.
أزمة كورونا..
شكلت ازمة كورونا بأبعادها المتعددة (اقتصادية، اجتماعية، صحية..) اول تحد حقيقي يواجه النظام الجديد وطريقة تعامله مع الازمات، في البداية كان الاداء مبشرا، حزمة قرارات اقتصادية واجتماعية وتدابير صحية لاقت ترحيبا وتجاوبا واسعا من الجميع توجت بإنشاء صندوق للأزمة ساهمت فيه الدولة بالنصيب الاكبر الى جانب مساهمة مختلف الفاعلين الاقتصاديين واصحاب رؤوس الاموال وتجاوزت عائداته حسب آخر البيانات المائة مليار اوقية قديمة.
مع طول أمد الوباء بدأ الحماس الذي طبع بداية الازمة يتلاشى وأصبحت أغلب الوعود بتوفير المستلزمات الطبية ومواكبة الازمة في شقيها الاجتماعي والاقتصادي تدخل دائرة التسويف وعاد التجار من نافذة زيادة الاسعار بعد ان اغلق في وجههم باب المضاربات والاحتكار بداية الازمة واقتصرت الاجراءات في النهاية على حظر التجول واستجداء الدعم الدولي وطلب المعونة.
حصلت البلاد على حاجتها من اللقاحات دون ان تدفع فلسا واحدا من صندوق كورونا ومرت السنوات دون وصول سيارات الاسعاف الموعودة و ذهبت حملات التحسيس والتكوين باغلب مداخيل الصندوق!!
في بعدها الاستراتيجي لم تنجح ازمة كورونا وما صاحبها من مشاكل التموين عالميا في فتح عين النظام الجديد على اولوية العمل على تحويل الضفة الى سلة غذاء وتنظيم قطاع التنمية الحيوانية والاستثمار الجاد في الصيد البحري المحلي بحيث نوفر اكتفاءً ذاتيا اظهرت الايام والازمات الدولية المتلاحقة ضرورته وبقيت التدخلات مقتصرة على برامج وورشات دون نتائج ملموسة على الارض او في البحر.
الاجماع السياسي..
منذ وصوله لسدة الحكم انتهج الرئيس الجديد سياسة انفتاح وتشاور ركزت أساسا على معارضيه، سياسة كانت كفيلة بتعطيل وتفكيك معارضة كان يجمع اغلبها الموقف الشخصي من الرئيس السابق أو الصراع معه على المنافع.
صاحب سياسة الانفتاح على المعارضة دخول الحزب الحاكم في حالة موت سريري سببها زلزال المرجعية وتداعيات لجنة التحقيق البرلمانية التي طالت معظم قياداته بالاضافة لصراع الوافدين الجدد من الضفة الاخرى مع الحرس القديم داخل الحزب.
لقد انتجت فكرة الاجماع حالة جمود سياسي وخلقت تداخلا في الادوار بين المعارضة والموالاة افقد الاولى فعاليتها وادخل الثانية حالة من التيه السياسي، وضعية جعلت الرئيس نفسه اكثر من ينتقد تقصير الحكومة واكثر من يتحدث عن الاخفاق في الوفاء بالالتزامات، وبما أن الطبيعة ترفض الفراغ، كان لزاما أن تظهر اصوات جديدة خارج الاطر الحزبية التقليدية لتلعب دور المعارضة الغائبة، اصوات تنقصها التجربة والتأطير وتفتقد للبرامج والرؤى ويقتصر دورها أساسا على النقد الشخصي والتجريح.
الفراغ الاعلامي..
لقد اصبحت الاذاعة تلعب دور التلفزيون واصبح التلفزيون ينافس الاذاعة البث على موجاتها وتحولت الوكالة لمعرض صور على الفيسبوك وتم انشاء مكتب اعلامي لرئاسة الجمهورية تزاحمه المنصات الخاصة جديد اخبار الرئاسة وبياناتها كما تمت مضاعفة حجم الانفاق على تلك المؤسسات وبالرغم من كل ما سبق فإننا نعيش اسوء فترة اعلامية منذ التأسيس سواء من ناحية التوعية أو مواكبة الاحداث أو توجيه وانارة الرأي العام.
حالة التخبط الاعلامي والتداخل في الادوار والصراع الشخصي بين من يديرون المشهد الاعلامي خلقت فراغا في الاعلام الرسمي عوضه مدونون يستخدمون البذاءة سلاحا والابتزاز تجارة، يوجهون الرأي العام دون منافس ويؤثرون في سياسات الدولة، يقال المسؤولون تحت ضغطهم وتراجع السياسات بناء على مقترحاتهم.
لقد اصبحت دقائق من بث مجاني مباشر من احد “المؤثرين الجدد” كفيلة بنسف أهم مشاريع النظام مهما كانت اهميتها وبلغ تمويلها وحسن تنفيذها، وتحول هؤلاء المؤثرون الجدد لسلاح تصفية حسابات بين اجنحة النظام المتنافسة.
التآزر والتكافل الاجتماعي..
طغى البعد الاجتماعي على وعود الرئيس وكان عماد برنامجه الانتخابي سواء منه ما تعلق بمحاربة الغبن والتفاوت الطبقي او اعطاء الاولوية للفئات الهشة والنهوض بها في مختلف المجالات.
ولعل نظام التغطية الصحية المجاني لمئات آلاف الاسر المعدمة يعد الانجاز الابرز في هذا الميدان ان لم يكن الانجاز الاهم خلال النصف الاول من المأمورية اضافة للتحويلات النقدية التي يستفيد منها المعدمون في دوائر الفقر ومع ذلك يبقى اداء وكالة تآزر المكلفة بتنفيذ الجانب الاجتماعي من برنامج الرئيس بعيدا من المطلوب والمتوقع مقارنة مع الصلاحيات وحجم التمويل.
النصف الثاني الى اين..؟
قد لا تبدو الصورة وردية في النصف الاول من المأمورية وقد يكون الوقت المتبقي منها ضيقا والظروف الدولية غير مواتية لخلق الافضل، ما يصعب مهمة تغيير تلك الصورة في نصفها الثاني لكن سلسلة من المعطيات قد تشكل طوق نجاة لو وجدت حسن الاستغلال وسرعة التنفيذ :
اولا- شخص الرئيس : ما يزال الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني يحظى باحترام وثقة غالبية الموريتانيين، فلو تجسد تذمره المتكرر والمعلن من الاداء الحكومي تغييرا على الارض وحضورا شخصيا في المشهد اليومي ومركزية للقرار فسيخلق ذلك دون شك دفعا قويا ويعطي ثقة يفتقدها الوضع اليوم ويقدم اجابة قطعية لسؤال من يحكمنا؟ الذي يوسوس به خصوم الرجل في آذان الجميع.
ثانيا- المدرسة الجهورية: تعتبر المدرسة الجمهورية ام الفرص الضائعة، فقد كانت فكرة ثورية قادرة على تغيير وجه المأمورية الاولى وجسر عبور آمن لمأمورية ثانية لو وجدت ارادة وآلية التطبيق على ارض الواقع، ففضلا عن فرضها لنمط تعليمي موحد ستكون تلك المدرسة بوتقة تنصهر فيها مختلف الفئات والمكونات التي فرقتها مناهج التعليم السابقة واطماع السياسيين،
ثالثا- الزراعة والامن الغذائي : في ظل شبح مجاعة يتهدد العالم على وقع تداعيات الوباء وتعطل سلال الامداد اضافة للحرب الاوكرانية فإن الاتجاه في مابقي من المأمورية يجب ان يكون للاستثمار في الضفة وفرض رجال الاعمال على الاستثمار في الاراضي الزراعية التي يحتكرونها دون استغلال عبر اعتماد مبدأ احياء الارض او مصادرتها.
رابعا- تنفيذ المشاريع : يعطي تعثر المشاريع وتوقف بعضها دون مبرر واضح صورة قاتمة عن جدية النظام وقدرته على النهوض بالبلد، الحزم في التعامل مع المكلفين بتنفيذ المشاريع وخلق آليات جدية للرقابة عليهم ومعاقبتهم عند التقصير واطلاق مشاريع عملاقة تحمل بصمة خاصة بالنظام الحالي قد تساهم في انعاش النصف الثاني من المأمورية.
خامسا : وقف التمديد والتدوير : التعيين في المناصب اولا واخيرا سلطة تقديرية تعود للرئيس وثقة يضعها في من يراه اهلا لها لكن الخوف من تغيير الاوجه والتردد في ضخ دماء جديد والاعتماد على رجال انظمة سابقة جربهم الناس دون جديد وملتهم الكراسي دون فائدة لا يبعث على الامل وينافي الحس السياسي السليم فلكل دولة رجالها سواء تعلق الامر بالعمل الحكومي او الفعل السياسي.
سادسا- محاربة الفساد : اغلب الاخفاقات التي تحدثنا عنها في بداية التقييم كان الفساد سببها الاول ومحركها الرئيس وقد تتداخل هذه النقطة مع سابقة تدوير مدانين والتمديد لمتهمين، فلا ثقة دون خطوات جدية وشفافة وملموسة في هذا الاتجاه.
سابعا- استغلال ارتفاع اسعار المعادن : مع ارتفاع اسعار الحديد عالميا الى مستويات قياسية وقرب بدأ استغلال حقول الغاز الذي يبدو العالم اليوم في امس الحاجة اليه يجب وضع خطط مدروسة وفعالة لترشيد تلك الموارد والاستفادة من مداخيلها لخلق بوادر نهضة اقتصادية في نهاية المأمورية الحالية وتفادي اخطاء التجارب السابقة في مجالات مماثلة.
في الختام نؤكد أنه لا يمكننا يقينا تقييم نصف مأمورية بانجازاتها واخفاقاتها، بأزماتها وانفراجاتها في بضعة اسطر لكنها محاولة متواضعة للمساهمة في تحريك ساحة سياسية طغت عليها الرتابة حد الجمود و فرصة للفت الانتباه لنواقص تتجنب الموالاة الخوض فيها انسجاما مع مبدأ اسست عليه أن الموالي لا ينتقد وتحتفظ بها المعارضة كسلاح هجومي في المعارك الانتخابية أو ورقة ضغط عند التفاوض.