عندما يرى الفقهاء و هم يغضون الطرف عمدا عن التلاعب بالمال العام و تكديسه بأيدي المختلسين يُشيدون به العمارات الكبيرة و منه يعمرون بالبضاعة المحلات الفاخرة، و يروا نساءهم ترفل في الحرير و أبناءهم بمقاود السيارات الفاخرة و بالملذات يلهون، و ما كان لكل هؤلاء من آبائهم ميراث، فلا يزجرون و لا ينهون فاعلم أنهم أخلوا بواجبهم تجاه ربهم و دينهم و خانوا علمهم و خدلوا أمتهم و باعوا آخرتهم بزائل من المال الحرام الذي يصلهم من هؤلاء المفسدين العتاة.
و عندما يرى أصاحب الشهادات العالية و المعارف الجمة يسرفون في النفاق لرفات الرعاع أصحاب المال و الأجلاف أصحاب القوة الغاشمة، و لا يثرون بمعارفهم مكتبات و لا ببيانهم فصولا، و لا يعتلون إلا منابر التزلف و النفاق، فاعلم أنهم أشد بأسا على البلاد و ساكنتها من الحسام المهند.
عندما يرى هذا و ذاك فاعلم أن النفاق استحكم و أن الحاضر أصابه الوهن و المستقبل للزوال ارتهن..
داخل أسوار السيباتية
يمد إليك السائل يد الاحتياج و وجهه مكفهر يتطاير شررا، يخاطبك بحدة و لسان حاله يقول لك لا تنظر إلي نظرة مشفق، فأنا بن الأكرمين، الغنيين، القويين، المهابين، و أعطني ما أنت معطيه و لا تنتظر مني نظرة رضا عن فعلك.. ثم لا تعطني قليلا فذاك لغيري و إلا فرد يدك إليك و لا ترني وجهك الذي أغاظني، فأنا بن الأكرمين العظيمين.
في الزقاق، يقذف الصبي المدلل بالخطاب السيباتي بحجر على سيارتك و هو يضحك، فإن أردت معاتبته على فعلته حدق فيك و كلمك بصوت زاجر مكبا وجهه في وجهك صارخا بملء فيه : لا تعاتبني فأنا لست ابنك و إنما بن الأكرمين السيدين المهابين الفعالين لما يريدان.
في الإدارة يماطلك الموظف الكسول و الآخر الذي لا خبرة له حتى إذا ما احتجيت غضِبا منك و هدداك بأن لا تحصل على حقك إلا أن يريدا، فهما ابنا الأكرمين المهابين، و ما الوظيفة إلا من أبسط حقوقهما على البلد.
و في السوق تشتري أو لا تشتري سواء عند صاحب محل الجملة بن الأكرمين الغنيين الذي يهابه ضباط الجمارك و حراس الحدود و وكلاء الضرائب لأنه معطي الفتات و مستورد البضاعة المنتهية الصلاحية و القليلة الجودة.
و أما النساء، في بلد السادة الكرام أسياد الماضي و الحاضر و المستقبل، فإنهن مالكات البورصات و الأسواق الليلية و بيوت الحفلات و موظفات الرجال من دون اختبار أو مؤهلات و حاميات الشباب الطائش من عواقب الزلات و التهور.
هكذا تجري الأمور في بلد التناقضات الكبرى و داخل أسوار من الصمت الرهيب و القبول المهين بكل علامات التخلف و الارتكاس و التقهقر و العالم من حولنا يجني ثمار التفتح و الوعي السوي و الديمقراطية.
المبادرات سلاح النفاق الفتاك
في بلد التناقضات الكبرى تتسم، على الغالب الأعم، المواقف من كل القضايا الكبرى و المصيرية بالارتجالية السافرة و الأنانية العارية من كل خلق قويم، و لا تستند إلى أية منهجية أو معتد علمي أو وازع وطني، و لا على طرح فلسفي أو سياسي رفيع. كما أنها لا تخضع أو هي لا تقع حتى تحت طائلة أي من الوازعين الديني و الخلقي، لأن القضايا عندنا مغنم و فرائس تسوقها الفرص الطائشة و لا بد من اقتناصها و استدرار ما فيها من المنافع و المزايا المادية باستخدام كل الطرق و الحيل و جميع المراوغات و الحربائية و التنكر للتوجيه الديني و المحفز الخلقي.
و في هذا يتجلى النفاق بكل تفاصيله و تقاسيم أوجهه. و من أبرز هذه الأوجه و أشدها فتكا “المبادرات” التي تصحب كل تحول سياسي هام فتلقي بظلال الشك و الخذلان و الاضطراب على المواقف و تذر الرماد في عيون الصادقين حتى تحتجب عنهم رؤية الواقع.
و هي المبادرات التي تحفر الشروخ العميقة في كل الأجسام المترهلة ليتبوأ قممها الهشة الأشد نفاقا و الأظلم من الطامعين في القرب من مواقع القوة و النفوذ و نوافد الفساد.
و بالطبع ليست المبادرات بكل خبثها و غرضيتها إلا تعبيرا عن اتخادها أهم خطوط ميراث عقلية السيبة التي ما زالت تتحكم بشدة في المسلك العام و توجه بقوة كل مطمع إلى مكسب سهل ينافي الأخلاق و يعارض الدين رغم إنمار ذلك بفعل غلبة النفاق و عمى البصائر