مفارقة عجيبة في بلد التناقضات الكبرى. أفراد يجوبون العالم العربي من دون توقف، لا يحملون إلا كلاما يمجد و لا يبني داخل روتين التحجر و قالب الماضي، في الوقت الذي لا يجد فيه أساتذة الرياضيات و العلوم و الهندسة و الفيزياء و الكيمياء فرصة للسفر إلى ورش تكوينية أو مؤتمرات علمية أو معارض صناعية لتحسين خبراتهم و مهاراتهم و مضاعفة حقول أدائهم.
باعة كلام من صف المسكرات يرفلون في الحرير و أصحاب علم يبني مهانون.. في بلد يقتل أهله بالكلام، بل يقتل حتى اللغة نفسها، و لا يبنون بالسواعد وطنا يسكن في العراء الحضاري و يأكل بلا حياء ثدي أمه من جوع العاجز.
اللغة العربية و المقاومة الوطنية ضحايا السمسرة
لا شك أن الذين يزودون هواتفهم ب”اكردي” للاتصال على المدعوين إلى تظاهرات نصرة اللغة العربية، و يركبون “وتاتهم” إلى حيث النشاط بعدما تزودهم جهات راعية موسمية ب”بهات كازوال”، ليسوا أكبر و لا أجدر المنافحين عن اللغة العربية. هؤلاء الذين لا يتحدثون بها إلى من يخاطبون، مفضلين استخران لهجة تعج بما ليس منها مما لا ببقي لجمالية النحو غيها شأنا، و لا للصرف هيبة و لا لسحر البيان مستصاغا من أدن، ليسوا أفضل من يدافع عنها.
و ليس الشعراء أيضا بالمدافعين المنتقين حيث يتعمدون إبقاء لغة الشعر للطرب بلا حمولة تفيد متطلب الواقع.
و ليس كذلك الأكاديميون الذين تشبعوا بعلوم جامدة و آثروا توصيلها باللهجة دون الفصحى من عقد و استسهال و عدم قدرة على التعبير هم المرافعين المنتجبين.
نعم هكذا تعاني لغة الضاد بفعل الناطقين بها و المنتمين إلى حياضها في هذا القطر الذي يدعي أهله الالمام بها و تملك ناصيتها.
و إنه في هذا المصير السيئ لا يشبه اللغة العربية إلا تاريخ الجهاد الذي يزور المدعون الالمام به وثائق المستعمر و يعتمدون الأساطير و تحريف الحقائق و الوقائع في قتل متعمد لهذه الحقبة و جني انتهازي لفتات المتواطئين.
و تستمر مهزلة الظلم الصامت
و تستمر مهزلة الظلم الصامت و لا يتحرك ضمير أو يصدر رفض كأنما الأمر طبيعي يسجل نفسه في سيرة الزمن “السيباتي” الدائم يفصوله الثابتة. إنها ذات مصادر القوة و النفوذ و الحضور بفعل قبلية مقنعة، و جهوية موجهة و طبقية لا تنكر وجهها.. موظفون بلا عطاء بتقاسمون المتاح و المبتكر من الوظائف.. رجال إهمال و تمالء.. أطفال حديثو السن يديرون المؤسسات الكبيرة.. نساء على حين يملكن على حين غرة الأسواق الراقية و العقار الممتد في الأحياء الممتوعة على الفقراء.. كهول قبليون يتحدثون لغة خشنة و يقطبون الوحوه عند كل منعرج كلام كأسلوب للإرهاب التعاملي…
تهريب بلا رادع من كل الجهات على أيدي المنتقين… فقر ينتشر كالوباء في العامة، و لا حركة اقتصادية تؤشر على خروج من دائرة التخلف، أو بنى تحتية معينة تحفز على بدء حراك في هذا الصدد.. شعراء و غاوون، منافقون و متزلفون يملؤون كواليس الإدارات و المؤسسات يسبحون بقدسية “السيبة” و نظامها الذي مخر عباب الزمن و صرع الدين و الحداثة.. و في كل هذا يظل موقع البلد الاستراتيجي و مقدراته التي تنهب هي التي تبقيه بالفتات من ريعها في هذا المستنقع الأسن من الظلم الصامت بفعل ما يصل الشعب منها يستمر رمق للحياة، و بعدما
غياب المرجعيات
فتشت، في رحاب الفضاء الثقافي الفاتر و الفكري الجاف، عن نوابغ مميزين أفتخر بهم و انتفع بعطائهم و عن مجتهدين و منظرين من الضالعين بعلم التحليل و التوصيل في عصر التحولات الفكرية الكبرى حول مسار الدين الحنيف الذي تحاصرة الظلامية و المجتمع التي تكبله عقلية السيبة و بناء الانسان العصري المتعثر و ركود العقلية المصاحبة، فتشت عن كل هؤلاء فلم أجد علي غرار عمالقة أنجبتهم الجزائر و المغرب و السيتغال من الجوار المباشر، في هذه البلاد التي يقتل أهلها الادعاء الاسطوري بالنبوغ و المعرفة، و يحطهم الإتباع الصامت على إنكار المتبع و المقلد، فلم أجد من من تشد إليه الرحال أو يجلب الانتباه أو ينفع بفكره الواعي و المعين على الحضور في ثوب يليق بمسيرة الالتحاق بالركب الأممي.
المنابر خالية إلا من بعض الغوغائيين من أصحاب الصروح التي تدعي نشر المعرفة و الدراية بالدراسات و التحليل، و من الذين وجدوا فرصة الخواء المخيم لكسب فتات من جهات تدعي هي الأخرى الاهتمام بالثقافة و إنعاشها.
و أما العطاء الذي يمكث في العقول و ينور الدروب و يثمر العمل البناء، فنادر إلا من قلة تقدم بعض منتجها و تجاربها من خارج البلد حيث هاجرت لكي لا تموت مواهبها و لا يضيع عطاؤها.
يملأ الظالمون بطونهم و جيوبهم و يعيثون فسادا مدمرا.
نأم مساجد غيرنا و لا نعتبر
كنت أتابع باهتمام شريطا رائعا عن المساجد الحديثة و البارزة في جل عواصم الإسلام بهندسات أصيلة تباهي بعضها في الروعة و الضخامة و التميز المعماري. فشاهدت مسجد الحسن الثاني ذو السقف الضخم المتحرك بالليزر، و مسجد زائد بن سلطان المهول بهندسته التي نحتت من ألف ليلية و ليلة، و مسجد كوالالانبور التحفة، و مسجدي لاهور و ادجاكارتا الاستثنائيين، و مسجد اسلام اباد البديع، و مسجد بيكين بظابعه الصيتي، و مسجد لندن و باريس الناطقين بخضور الإسلام القوي، و مسجد طوبى العظيم، و غيرها من المساجد تميز بلدانها و ترفع شأن الإسلام فيها.. و تذكرت متحسرا يعتصر قلبي ألم شديد أننا نفاخر بألسنتنا و نبني الأوهام بخيالنا المصاب بتورم الادعائية، و لانشيد صرحا بعرق الجبين أو هندستنا المعمارية الخالصة، و في كل هذا لا يعترينا خجل حينما نأم في قلب عاصمتنا، كما تؤم الأفاعي جحور غيرها، مسجد السعودية، و مسجد قطر، و مسجد المغرب في تعرية علنيةلطبعنا الدفين المتمثل بالطمع فيما عند الغير و لو ظل يحمل طابعه و يعبر عن هويته.. لأننا هكذا نحن … بدون نقصان.