دأبت حكومات بلادنا المتعاقبة على الحديث عن الاكتفاء الذاتي من الغذاء، أو بعض أنواعه على الأقل، وعن وضع الاستراتجيات والخطط لتحقيق سيادتنا الغذائية.
فهل لهذه الجعجعة التي نسمع طحن؟ أم أنها عملية إلهاء لأطفال جياع حتى يناموا، أو لشوارع متوترة حتى لا تنفجر؟
وما موقع الزراعة في بلادنا من موكب النهضة الزراعية المتسارعة في دول الجوار؟
ذلك ما نحاول أن نتصدى له في هذا المقال، وإن بدا الأمر محرجا.
أولا: المعطيات الحالية
1. في موريتانيا:
لا يتجاوز الإنتاج السنوي الموريتاني من الحبوب مجتمعة، طبقا للأرقام الحكومية، 428.888 طنا (حسب معطيات الموسم الزراعي 2018-2019). ولذلك تنفق البلاد سنويا نحو 166,8 مليار أوقية قديمة على وارداتها من المواد الغذائية، حسب أرقام مكتب الإحصاء الحكومي لسنة 2018.
وتعاني البلاد من بطالة تقدر بنحو ثلث القوة العاملة. كما تعاني من مستوى فقر مرتفع، يصل، في الوسط الريفي، إلى 4،59% حسب دراسة مسحية أجريت سنة 2008.
وتمتلك البلاد 513.000 هكتار من الأراضي عالية الخصوبة، منها 136.000 هكتار على ضفة النهر، لم يصل المزروع منها قط إلى الثلث.
2. في دول الجوار:
أطلق المغرب سنة 2008 برنامجا طموحا تحت عنوان: “المغرب الأخضر”.
وبموجب نتائج هذا البرنامج، تضاعفت صادرات المغرب الزراعية سنويا، بنسبة 117%، لتصل قيمتها إلى نحو 33 مليار درهم مغربي، أي حوالي 1.335.180.000.000 أوقية قديمة.
كما خلف هذا البرنامج 342.000 فرصة عمل.
وقد وصل الانتاج المغربي من القمح والشعير وحدهما إلى 14.811.400 طن، حسب أرقام الموسم الزراعي 2017-2018.
وبعد سنتين من اطلاق برنامج “المغرب الأخضر” أطلقت السنغال برنامجا طموحا لتحقيق سيادتها الغذائية.
وقد شهد هذا البرنامج تسارعا غير مسبوق، مع وصول ماكي صل إلى الرئاسة، لأن هذا الرئيس رأى في الزراعة وسيلته الأساسية للنهوض باقتصاد بلاده، حسب ما أعلنه في مقابلة إذاعية، أيام تنصيبه.
وهكذا أصبحت المنتجات الزراعية تمثل ثلثي صادرات السنغال، بعد أن حققت قفزة كبيرة في هذا المجال، حيث زادت المحاصيل في موسم 2018-2019 عن معدل السنوات الخمس السابقة، وذلك بنسبة 88% في الذرة الرفيعة (البيضاء)، و63% في الذرة الصفراء، و49% في الفستق، و92% في اللوبيا.
أما البطيخ والبطاطس، فقد زاد محصولهما على التوالي، بنسبة 387% و116%.
وقد تمكنت السنغال من تحقيق اكتفائها الذاتي من الأرز، بعد أن كانت ثامن أكبر مستورد له على مستوى العالم.
أما مالي، فهي مصممة على أن تتحول إلى قوة زراعية إقليمية، كما يقول رئيسها الذي يترأس، بنفسه المجلس الأعلى للزراعة.
وقد وصل إنتاج هذه الدولة من الحبوب 10.159.539 طنا، حسب معطيات موسم 2019-2019. هذا بالإضافة إلى 656.548 طنا من القطن الذي كانت تحتل فيه دائما المرتبة الأولى على مستوى دول المنطقة.
وتصل المساحة المزروعة في مالي إلى 5.892.161 هكتارا (موسم 2018-2019).
وقد انكبت الجزائر بدورها على تثمين مواردها الزراعية التي أهملتها ردحا من الزمن، فأطلقت برنامجا طموحا، بهدف تحويل الصحراء إلى مزارع غناء.
ووصل انتاج الجزائر من القمح وحده في موسم 2017-2018 إلى نحو ستة ملايين طن.
وترمي الخطط الحكومية، إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح الصلب، وإلى مضاعفة انتاج الحبوب ثلاث مرات.
وتصل قيمة الانتاج الزراعي في الجزائر إلى 25.000.000.000 دولار.
ثانيا: أسباب تخلفنا الزراعي المفزع
بعد هذا العرض المقارن، بين واقع الزراعة في بلادنا، وواقعها في دول الجوار، يحق للقارئ أن يتساءل عن أسباب تخلفنا الزراعي المخجل، الذي لا تنفع المكابرة في نفيه، ولا يجدي التبرير في ستره.
ولا تكلف الإجابة على هذا السؤال كبير عناء، ولا طويل بحث. فلهذا الواقع المؤلم عدة أسباب، نحاول أن نعدد أهمها.
لكن أبرزها على الإطلاق، غياب الإرادة السياسية، لدى حكوماتنا المتعاقبة.
1. غياب الإرادة السياسية
وتشكل المقارنة بين ميزانياتنا الزراعية، ومثيلاتها في الدول المجاورة الدليل الأساسي المسكت، على غياب إرادة تحقيق السيادة الغذائية لهذه الدولة، التي تحارب، بفاتورة وارداتها من الأغذية، البطالة والفقر في تايلاند وباكستان وأمريكا، بدل محاربتهما بين مواطنيها، عن طريق تشجيع ودعم تثمين الموارد الزراعية الداخلية.
إن المغرب مثلا، عبأ، خلال السنوات العشر الأولى (2008-2018) من برنامجه الطموح “المغرب الأخضر” 108 مليارات درهم مغربي (4.320.000.000.000 أوقية قديمة)، 40% منها من خزينة الدولة.
أما الجزائر، التي ظلت على مدى عقود تركز على الصناعة، على حساب الزراعة، فقد استوعبت الدرس القاسي من فشلها الاقتصادي، الذي دفع بها إلى حرب أهلية، فانقلبت إلى الزراعة، لتقرر رفع استثماراتها الزراعية السنوية إلى 2.500.000.000 دولار (حوالي 94.675.000.000 أوقية قديمة)، وذلك خلال برنامجها من 2015 إلى 2019.
وللقارئ أن يقول إن الجزائر والمغرب دولتان غنيتان، ومقارنة موريتانيا بهما تفتقر إلى الإنصاف.
فلنقبل هذا “الحق الذي إريد به باطل” ستر عورات سياساتنا الزراعية الخرقاء”، ولنلتفت إلى جارتينا الأفقر منا، حيث متوسط دخل الفرد في السنغال 1958 دولارا، وفي مالي 1103، مقابل 2218 في موريتانيا، حسب أرقام الأمم المتحدة لسنة 2018.
ويكفينا المقارنة بين ميزانيات الزراعة للدول الثلاث، خلال العام الحالي 2020.
تبلغ الميزانية الموريتانية لقطاعي البيطرة والزراعة نحو 15,5 مليار أوقية قديمة، وهو ما لا يتجاوز نحو 2،57% من الميزانية العامة للدولة (مقابل أكثر من 13% للجيش)، بينما تصل ميزانية الزراعة في مالي إلى 15% من الميزانية العامة للدولة، البالغة 2.604.568.000.000 افرنك غرب إفريقي. وهذا يعني ميزانية سنوية تبلغ 390.685.200.000 افرنك، وهو ما يساوي نحو 264.532.948.920 أوقية قديمة.
أما السنغال فتصل ميزانية الزراعة فيها هذا العام إلى نحو 152.000.000.000 افرنك غرب إفريقي، أي نحو 102.919.200.000 أوقية قديمة.
وهذا يعني أن ميزانية الزراعة في موريتانيا، خلال السنة الحالية، لا تتجاوز نسبة 3،96% من مثيلتها المالية، و15،08% من ميزانية الزراعة في السنغال..!.
وقد ترتب على الاختلاف في الميزانيات الزراعية، هوة أكبر في مستوى الدعم الحكومي للزراعة، وهو ما نقصد به تحمل الدولة لجزء من تكلفة الانتاج الزراعي، حتى يصبح مغريا، أو على الأقل مجديا اقتصاديا للمزارع.
فالمغرب رفع، في خطة المغرب الأخضر، مستوى الدعم الحكومي بنسبة 112%، بعد أن أثبتت له الدراسات الميدانية، أن كل درهم تدفعه الدولة في الدعم الزراعي، يجذب معه 85،2 درهما من القطاع الخاص.
وهكذا فإن الحكومة المغربية تتولى مثلا، عن المزارع الذي تزيد مساحة مزرعته على خمسة هكتارات، 80% من تكاليف شبكات الري بالتنقيط، و50% من تكاليف حفر وتجهيز الآبار الارتوازية.
أما إذا كانت مساحة المزرعة لا تتجاوز خمسة هكتارات، فإن الدولة تتولى دفع التكلفة بالكامل (أي بنسبة 100%).
وفي السنغال يبلغ مستوى ما تتحمله الدولة عن المزارع، 60% من تكاليف المكننة الزراعية، و50% من البذور والأسمدة (حسب ميزانية 2018).
وفي مالي بلغت تكلفة الدعم الحكومي على الأسمدة وحدها، في موسم 2018-2019 نحو 44.000.000.000 افرنك غرب إفريقي، أي نحو 29.792.400.000 أوقية قديمة.
هذا بينما يصل الدعم الحكومي في الجزائر إلى 60% على الحاصدات، وما بين 30 و45% على آلات وتجهيزات الزراعة.
أما في موريتانيا فإن الحكومة تفرض رسوما جمركية على الأسمدة الزراعية، تصل إلى نحو 25% من قيمتها..!.
وما توفره الدولة من الدعم يتوجه بالكامل إلى شبكات الفساد. ذلك أن الصفقات العمومية تتعرض، كما هو معروف، لعمليات تضخيم خلال مرورها عبر قنوات التحالف العريق، بين أرباب السلطة والمال.
وهكذا تأتي الحكومة، بعد عملية التضخيم، لتقول إنها تدعم سعر الحاصدات بنسبة 25%، وسعر الأسمدة بنسبة 40%، بينما لا تغطي هاتان النسبتان إلا جزءا يسيرا من تكلفة الفساد، في مجالي الحاصدات والأسمدة.
أما البذور، فلا تقدم لها الحكومة أي دعم أصلا.
يضاف إلى هذا، تمتع المزارعين في الدول المجاورة بخطوط تمويل مدعومة ومريحة، قصيرة ومتوسطة المدى، بفائدة سنوية لا تتجاوز غالبا نحو 5% (قروض الحملات الزراعية في الجزائر من دون أية فائدة على الإطلاق).
بينما يكاد يكون التمويل الزراعي في موريتانيا معدوما بالكامل. فلا تمويل حكوميا متوسط المدى. والموجود من التمويل القصير المدى، لا يتجاوز 6 أشهر، ويقدم بفائدة تصل إلى نحو 12%، وهي فائدة أعلى حتى من بعض البنوك التجارية العادية.
ومع هذا كله، فإن هذا التمويل شبه معدوم، إذ لا يكاد يغطي نحو 4% من المساحة المزروعة..!.
وواقع التأمين الزراعي في بلادنا أسوأ من واقع التمويل.
فبينما يتمتع المزارع السنغالي مثلا، بثلاثة مستويات من التأمين الزراعي، تسمح له بالنهوض بعد كل كبوة، ويتمتع المزارع المغربي بتأمين ضد ستة مخاطر أساسية (الصقيع- الجفاف- البرد –الرياح القوية- الرياح الرملية –ركود المياه في الحقل)، بينما يتمتع هؤلاء وأقرانهم في الجزائر ومالي بهذه المظلات التأمينية، التي تحميهم من المخاطر الحتمية للزراعة، فإن المزارع الموريتاني لم يعرف التأمين الزراعي إلا في الذكر. ولم تقدم له الدولة قط أي تعويض، مهما كانت فداحة وشفافية الخسائر التي تلحق به. حتى في سنة 1999، التي فاض النهر فيها على المزارع، ولم يستطيع رئيس الدولة تفقدها إلا في طائرة حامت فوقها بسبب تحولها إلى بحيرة، حتى في هذه السنة، لم تقدم الدولة أوقية واحدة، مساهمة منها في تحمل جزء من الخسائر الفادحة التي خلفتها الكارثة.
وهكذا يتضح لنا أن المزارع الموريتاني يتيم الأبوين، أو هو فلاح على سطح المريخ، حيث لا دولة ترعاه.
ولنا أن نتساءل بجدارة: لماذا لم تستفد حكوماتنا المتعاقبة من التجارب الجيدة لجيراننا؟ أم أن هذه الحكومات عجزت عن التقليد، عجزها عن الخلق والإبداع.
2. الفســاد
عانى القطاع الزراعي من سطوة شبكات الفساد، فنهبت أموال، وضخمت فواتير، وبيعت أسمدة ومبيدات مغشوشة أو منتهية الصلاحية، وشوهت صورة الأرز الوطني، بسبب توزيع كميات هائلة، مغشوشة التقشير، عبر دكاكين أمل. (راجع على جوجل، مقالنا القديم: مكافحة الفساد أم مكافأة الفساد؟).
وسنكتفي هنا ببعض الأمثلة المحدودة، منعا للإطالة:
أ- تضخيم الصفقات:
قبل أن ترفع شركة اسنات يديها عن الحاصدات والجرارات، اشترت الدولة 20 حاصدة صينية من نوع فوتوه (Foton)، مع جراراتها بنحو 60.000.000 أوقية قديمة للحاصدة مع جرارها، بتكلفة إجمالية وصلت إلى 1.200.000.000 أوقية قديمة، بينما لا تتجاوز القيمة الحقيقية لهذه الحاصدات نحو 14.000.000 للحاصدة وجرارها.
والمصيبة أن هذه الحاصدات، التي تجاوز ثمنها بما يقارب الضعف، ثمن أفضل الحاصدات الأوروبية، مثل انيوهولاند واكلاس، كانت أسوأ ما وصل إلى شمامة من الحاصدات، وخرج أغلبها عمليا من الخدمة بعد حملتين أو ثلاث.
ويقال إن صفقة الحاصدات كانت من نصيب أحد المقربين اجتماعيا من رئيس الجمهورية آنذاك.
ومثل ما ضخمت حاصدات فوتوه، ضخمت بعد ذلك أيضا صفقة حاصدات ماسي فرجيسون، التي وصلت تكلفتها إلى أكثر من 69.000.000 أوقية قديمة للحاصدة مع جرارها، وهو ما يقرب من ضعف تكلفتها الحقيقية.
وقد أعلنت الدولة “دعم المزارعين” بتحمل 25% من الثمن المضخم لحاصدات ماسي..!
وما يقال عن الحاصدات، يقال مثله، أو قريب منه، عن الأسمدة والمبيدات، وإن كانت هذه تنفرد بفساد آخر أكثر غرابة.
ب- الغش في الأسمدة والمبيدات:
لم تفحص الأسمدة التي تستوردها الحكومة وتبيعها للمزارعين، لم تفحص من جهة محايدة إلا مرتين، كل منهما في سنة منفصلة.
وقد أكد الفحص الأول الذي أجراه المزارعون في مركز البحوث الزراعية السنغالي، أن نسبة النيتروجين في اليوريا لا تتجاوز نحو 21%، بدلا من النسبة المعهودة، المدونة على أكياسه، وهي 46%..! بينما كانت النسبة في الفحص الثاني، الذي أجراه المزارعون في المركز ذاته، لا تتجاوز 19% في إحدى العينتين، و14% في الأخرى.
وقد أحيطت الحكومة علما بنتائج هذه الفحوص، دون إجراء أي تحقيق، أو إصدار أية عقوبة.
أما المبيدات، فقد باعتها سونمكس بوقاحة، في إحدى السنوات، بعد انتهاء صلاحيتها، مع أن تاريخ انتهاء الصلاحية مدون على العبوات بشكل واضح.
ج- تشويه صورة الأرز الوطني
كانت الطريقة التي تعتمدها الدولة، في شراء المحصول الوطني من الأرز، هي تحديد سعر الأرز الخام، والأرز الأبيض المقشر، على أن يلتزم أصحاب المصانع بشراء الأرز الخام من المزارعين بالسعر الذي حددته الدولة، مقابل شراء الدولة ما ينتج عنه من أرز أبيض.
ويشترط العقد بين الدولة وأصحاب المصانع أن يكون الأرز مقشرا تقشيرا ممتازا، وهو ما يعني أن تظل نسبة أرباح أصحاب المصانع في الحدود المعقولة.
أما إذا قشر الأزر الخام تقشيرا متساهلا، فإن ذلك يعني مضاعفة أرباح صاحب المصنع، مع رداءة الأرز الأبيض الناتج من العملية.
وبسبب العلاقات التي نشأت تحت الطاولة، بين مسؤولي سونمسك ومقشري الأرز، أو بعضهم على الأقل، أصبح مسؤولو سونمسك يتسلمون، مغمضي العينين، أرزا بالغ الرداءة، “نصف مقشر”، ويدفعون به إلى دكاكين أمل، ليصبح هذا المنتوج الوطني محل تندر المستهلكين، ولتجد الدولة نفسها أمام نحو 50.000 طن من الأرز الأبيض بمخازن سونمكس، “لا تستطيع حتى الحيوانات أكلها”، على حد تعبير الوزير الأول آنذاك يحيى ولد حد أمين في لقاء مع النقابات الزراعية.
3. النقص الحاد في الآليات
بسبب غياب كل من التمويل والدعم الحكوميين، يعاني المزارعون من نقص مزر في الآليات الزراعية، وخاصة الحاصدات والجرارات. فقدرات المزارعين المالية، لا تسمح لهم، في أغلب الحالات، بشراء هذه الآليات المكلفة، التي تعتمد عليها الزراعة الحديثة.
ولذلك فإن أغلب الموجود من هذه الآليات على الضفة الموريتانية، هي آليات متهالكة، انتهت أعمارها الافتراضية.
وقد سمح منع السنغال حاصداتها من نجدة المزارعين الموريتانيين، هذا العام، سمح بكشف عورات السياسات الزراعية الخرقاء لحكوماتنا.
4. النقص في البذور الجيدة
يكاد يكون الإجماع منعقدا بين المزارعين على أنه لا توجد بذور أرز ممتازة في موريتانيا على الإطلاق. كما أن ما ينتج من البذور الرديئة في موريتانيا، لا يغطي إلا جزءا يسيرا من الاحتياجات المحلية، مما يفرض على المزارع الموريتاني استيراد البذور من السنغال، أو استخدام أرز خام عادي، تمنع كافة المعايير العلمية زراعته.
ويبدو أن أزمة البذور هذه، آخذة في التصاعد، سنة بعد أخرى، دون أي تحرك حكومي جدي.
5. الضعف المزري للنقابات الزراعية
تتبع وزارة الزراعة، سياسة تليدة، تتعمد إضعاف النقابات الزراعية، وتدجينها، بتحويلها إلى “كتائب مداحين لها”. وتقرب هذه الوزارة، أو تبعد، النقابات بقدر “وداعتها” أو صراحتها في تناول مشاكل الزراعة.
ولاشك أن النقابة المفضلة لدى الوزارة، هي نقابة رجال الأعمال، التي فرضت عليها الحكومة جنرالا متقاعدا من قيادة “بازب”، لم تكن تربطه بالزراعة أية صلة.
وقد حاولت حكومة عزيز، في سنواتها الأخيرة، فرض هذه النقابة، كمتحدث وحيد باسم القطاع، برغم أن النقابات الأخرى تتمتع بنفس المظلة القانونية، التي تتمتع بها نقابة الجنرال.
6. “تدريع” المسؤولين
يغيب مبدأ المحاسبة، بشكل يكاد يكون كاملا، عن القطاع الزراعي.
فمسؤولو قطاع الزراعة، تحميهم طبقة من الدروع أقوى من دروع دبابة ميركافا الإسرائيلة، المشهود لها بقوة التدريع.
ومنذ التحاقنا بهذا القطاع، قبل نحو 17 عاما، لم نسمع بأي مسؤول تمت محاسبته لأن أداءه انعكس سلبا على الإنتاج الزراعي. إنما يعزل هذا المسؤول لأن مستوى نفوذ حماته، داخل الحكومة، أصبح أضعف من مستوى حماة سلفه، أو لأن وزيرا جديدا على الوزارة، يريد زرع بعض رجاله، أو التحلل من بعض رجال سلفه. بل الغريب أننا رأينا مسؤولين تمت ترقيتهم، بعد ارتكابهم فظائع اقتصادية ألحقت ضررا بالغا بالقطاع.
وتتكفل بتركيب هذه الدروع الحمائية، لمسؤولي إدارة الفشل الزراعي، منظومة صناعة الكذب داخل الوزارة.
وهذه المنظومة، هي المسؤولة عن إقناع وزراء الزراعة بأن نجاحهم في الزراعة على أمواج الأثير، أسهل من نجاحهم في الزراعة على الأرض.
وما لم يتم تفكيك هذه المنظومة، والتخلص من ديناصورات زراعة الكذب، فلا أمل في أي خطط حكومية للنهوض بالزراعة، لأن الزراعة لا يمكن أن تنهض بدون مبدأ المحاسبة.
ولنضرب أمثلة بسيطة على ما سبق:
أ- في حملة الخريف لسنة 2010، تعرض مزارعو الأرز لضربة ثلاثية المصادر، بسبب تراجع المياه عن محاور المياه الرئيسية، لنقص في الصيانة، مما أدى إلى جفاف الكثير من المزارع. كما تعرضوا لهجمات غير عادية من الطيور، سببها التقصير المزري في مكافحتها. هذا بالإضافة إلى النقص الحاد في آليات الحصاد.
وأدت هذه الكارثة، إلى خسارات مدوية للمزارعين، وعجز يكاد يكون شاملا عن تسديد ديونهم للقرض الزراعي.
ولو جرت هذه الكارثة في بلد آخر، تحترم فيه الحكومة نفسها وشعبها، لأدت، على الأقل، إلى مجزرة بين مسؤولي قطاع الزراعة، إن لم تؤد إلى سقوط الحكومة بأكملها.
لكن جهاز صناعة الكذب، تولى تفعيل الدروع، وأعطى صورة مغايرة للحكومة عن أداء الحملة، مفادها أن نتائجها جيدة، وأن كلما في الأمر أن المزارعين محتالون، يتهربون من دفع ديونهم للقرض..!.
ولم أكتشف درجة تضليل الحكومة، إلا عندما بدأت أحدث رئيس الجمهورية عن الكارثة، بعد ذلك بنحو سنتين، وذلك خلال لقاء أجراه بمكتبه مع النقابات الزراعية، فالتفت مذهولا إلى وزير الزراعة بجانبه ليسأله.
لقد كان واضحا أن الرئيس يسمع الخبر لأول مرة. ولقد أثار الرجل شفقتي عليه بسبب درجة “الألينة” التي حشره فيها جهاز صناعة الكذب الزراعي.
ب- قامت الدولة بتنفيذ عدد من الاستصلاحات الزراعية الفاشلة، برغم فواتيرها المضخمة، وهي استصلاحات أدت إلى خسارة للمزارعين المستفيدين منها مثل: بوكمون وانكك، بسبب غياب المعايير الفنية.
وفي احدى هذه المناطق، وهي تنيدر، كانت الأرض أصلا غير صالحة للزراعة، بسبب ملوحتها الشنيعة، وهو الأمر الذي دفع الحكومة إلى التراجع عن استصلاحها، بعد أن صرفت فيها مبالغ كبيرة من أموال دافعي الضرائب.
فلماذا لم يعاقب الفنييون الذين نصحوا الحكومة باستصلاح تنيدر؟! ولماذا لم تتم مساءلة المسؤولين الذين قرروا استصلاحها من دون أية فحوص للتربة؟! ولماذا لم يعاقب المسؤولون الذين استلموا كل تلك الاستصلاحات المعيبة؟!.
منظومة انتاج الكذب هي التي تولت تفعيل دروع الحماية، عن طريق تشغيل معامل انتاج الكذب في الوزارة.
ج- لقد اعترفت الحكومة، قبل سنوات، كما سبق، بوجود نحو 50.000 طن من الأرز “نصف المقشر”، الذي لا يمكن تقديمه حتى للحيوانات، وهو ما تزيد قيمته على 10.000.000.000 أوقية قديمة، برغم أن عقدها يلزم مسؤولي سونمسك ألا يستلموا إلا أرزا مقشرا تقشيرا ممتازا، فهل سمعتم بمسؤولين تمت محاكمتهم، أو حتى إقالتهم، بسبب هذه الجريمة الاقتصادية الكبيرة؟!.
هذه، بإيجاز شديد، أبرز ملامح الوجه الكئيب للسياسات الزراعية لحكوماتنا المتعاقبة، التي ظلت نتائجها تراوح بين: “مكااانك سر..!” و”إلى الوراااء در..!”.
كل هذا عن الزراعة المروية، أما عن زراعتنا المطرية، فنحن إلى عصور ما قبل التاريخ أقرب منا إلى هذا العصر، وهو ما تصدينا له في مقال سابق، يستطيع من شاء العودة إليه على جوجل (موريتانيا: الزراعة على طريقة الهنود الحمر).
وفي الختام، يحق للقارئ الكريم أن يتساءل، بعد هذا التحليل المحبط، برغم أمانته: هل من سبيل للنهوض بهذه الزراعة المتخلفة؟ وهل من طريق لتحقيق اكتفاء ذاتي، يحقق السيادة الغذائية، ويوفر العملة الصعبة، ويكافح البطالة، ويقضي على الفقر؟.
ذلك ما نحاول أن نخصص له مقالا مستقلا، يتلمس معالم سياسة زراعية رشيدة، تنفع الناس، وتمكث في الأرض.
موريتانيا: الزراعة خارج التاريخ/ يحي بن بيبه