شهدت العاصمة المالية باماكو يوم أمس الجمعة تجمعا احتجاجيا واسعا مطالبا برحيل الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا، التجمع الذي تتزعمه قوي إسلامية و صوفية و بعض عناصر المعارضة المالية نجح في كسب رهان الحشد، رغم تحذيرات السلطة و استمرار انتشار فيروس كورونا في البلاد.
تسارعت وتيرة المواجهة بين الرئيس كيتا و الحراك المطالب برحيله بشكل كبير على مدار الأيام الأخيرة، ففي يوم السبت الماضي نظمت ثلاث هيئات معارضة مؤتمرا صحفيا مشتركا طالبت فيه بالشفافية في تسيير الشأن و وقف الإفلات من العقوبة بكافة أشكاله. و دعت إلي “هبة وطنية” للخلاص من نظام كيتا. و اعتبرت هذه الهيئات الثلاثة و هي، حركة أمل مالي كورا، و جبهة حماية الديمقراطية و منسقية الجمعيات الداعمة للإمام محمود ديكو أن الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا يدير البلاد بطريقة فوضوية و تسيير كارثي. هذه الدعوة للتظاهر واجهتها المحكمة الدستورية بالبلاد بتحذير ، حيث أدانت المحكمة في بيان صادر عنها “التصرفات التي تمس من الانسجام الاجتماعي ، و تقوم على نشر دعوات و تصريحات تخريبية و تحريضية ” في إشارة إلي الحراك المناهض لرئيس البلاد.
دلالة توقيت الحراك
تنبأت بعض التوقعات اثر اندلاع أزمة كورونا في منطقة الغرب الإفريقي بحدوث تحولات سياسية تغذيها الآثار الاقتصادية الاجتماعية للجائحة، و مع أن مالي لم تتخذ إجراءات صارمة للحد من حركة المواطنين و التضييق على ظروفهم الاقتصادية و الإنتاجية على غرار بعض بلدان شبه المنطقة، إلا أن جروح الأزمة الداخلية كانت عميقة و أرصدة الثقة بين شركاء الجبهة الداخلية(الفاعلين في باماكو) كانت متآكلة بما يهيؤ لأي حراك لسحب الشرعية من الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا.
ثمة تفسير إضافي يتعلق باختيار توقيت الحراك، و هو عامل بروز قوي مجتمعية فاعلة في المشهد السياسي المالي باتت تحسب نفسها بديلا عن المعارضة التقليدية، فالشخصية المحورية في الحراك الحالي الإمام محمود ديكو يريد له أنصاره أن يظهر بمظهر المنافس السياسي الأول لرئيس البلاد كيتا، رغم كونه لا يحمل صفة سياسية حزبية تخوله ذلك. لذا فأنصاره يستفيدون من ظهوره في هذا التوقيت، الذي يغيب فيه زعيم المعارضة بمالى سوميلو سيسي قسرا عن الواجهة بعد اختطافه قبل أزيد من شهرين من طرف تنظيم مسلح شمال البلاد.
إن الخطأ الجسيم الذي وقع فيه الرئيس كيتا كان تجديد مأموريته لمرة ثانية رغم فشل أدائه في مأموريته الأولي و تصدع الجبهة الداخلية الداعمة له و تخلي ابرز داعميه الرئيسيين عنه من أمثال محمود ديكو الرئيس السابق للمجلس الإسلامي الأعلى و الشيخ محمدو ولد الشيخ زعيم الطريقة الحموية فيما بعد، و تصاعد العنف في شمال البلاد، و عدم قدرة كيتا على احتواء المعارضة السياسية و اتهام الدائرة المقربة منه بالفساد. و لذلك لم تحمل إعادة انتخابات كيتا أية طموحات جديدة للماليين، و قد ترجم تراجع حزبه في الانتخابات التشريعية الأخيرة مدي تراجع ثقة الماليين بالرئيس كيتا و مشروعه السياسي.
محمود ديكو ..أمير الشارع
تصدر الإمام محمود ديكو أجداث السياسية و الاجتماعية بمالي منذ ما يزيد على عقد من الزمن، و أصبح الإمام الإصلاحي على مدار هذه الفترة أحد أهم الوجوه المؤثرة في المشهد المحلي. تحول ديكو من داعم للرئيس كيتا إلي معارض شرس له.
فصول المواجهة المفتوحة بين ديكو و الرئيس كيتا بدأت قبل أشهر حين أطلق الأول تصريحات نارية تجاه السلطة، ليتم بعدها توجيه تهمة له تتعلق بالمساس بالأمن العام، إلا نزول أنصاره للشارع منع السلطة من المضي في مسلسل مضايقاته بدل و أرغمها على الاعتذار له، غير أن ديكو أغلق الباب أمام مساعي المصالحة مع السلطة و اختار تجب المواجهة بالتقسيط، معلنا رفع شعار المواجهة المفتوحة مع السلطة، و مستعينا بجبهات داخلية ساخطة على نظام كيتا.
و ينحدر ديكو من إقليم تمبكتو ، و قد ترأس المجلس الإسلامي الأعلى بمالي لدورتين متتاليتين، و يعتبر احد أتباع المدرسة السلفية العلمية، و قد تأثر بالفكر السلفي أثناء دراسته في المملكة العربية السعودية. و قد لعب الرجل دورا كبيرا في حركة الإصلاح و التجديد الفكري في البلاد.
و كانت هذه الخلفية الفكرية سببا في علاقته بإياد آغ زعيم حركة أنصار الدين السلفية التي كانت تسيطر على أجزاء من شمال مالي قبل تدخل القوات الفرنسية و الإفريقية مطلع 2013 لطرد الجماعات الإسلامية المسلحة من شمال البلاد، قبل أن يخرج الأخير على السلطة و يختار حمل السلاح من اجل إقامة إمارة إسلامية بشمال البلاد.
يمتلك ديكو تأثيرا قويا في توجيه بوصلة الشأن العام، فقد تزعم الحراك الاحتجاجي الذي قاده الأئمة و الدعاة بالبلاد سنة 2009 لإسقاط مدونة الأحوال الشخصية باعتبارها مخالفة في الكثير من موادها لأحكام التشريعية الإسلامية.
كما يتحدث منتقديه عن دوره الكبير في وصول الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا للسلطة، و ذلك بتعبئة الفعاليات المسلمة بالبلاد للتصويت لكيتا في رئاسيات يوليو\تموز 2013.
و كانت ضغوط المجلس الذي يرأسه وراء اعتماد الحكومة المالية لوزارة مكلفة بالشؤون الدينية، و تُعني هذه الوزارة بتنظيم الحقل الديني و بتوفير بيئة حاضنة لمئات الطلاب من حملة الشهادات العليا في مجال التعليم العربي .
اختارته الحكومة قبل أشهر لفتح قنوات حوار مع بعض الحركات الجهادية، و ذلك استجابة لمطلب قديم عند الرجل يتعلق بضرورة تغليب الحوار مع بعض التنظيمات الجهادية التي تنشط شمال البلاد.
فرنسا .. الغائب الحاضر
لم تعلن فرنسا لحظة كتابة هذه السطور موقفا مما يجري في مالي، لكن صمت صانعي القرار في باريس عن مجريات الأحداث بمالي لا يعني عدم اكتراث الفرنسيين بالأحداث الجارية في مالي، فتزامن تصريحين لوزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي يتعلقان بالوضع الأمني بالساحل(مقتل زعيم القاعدة بالساحل، و التأكيد على نشر القوات الخاصة الأوروبية لمحاربة الإرهاب بالساحل “تاكوبا” قبل نهاية الصيف ) مع الحراك الشعبي بمالي يستبطن رسائل يمكن أن يستشف منها أن فرنسا تريد لفت انتباه دعاة تغيير النظام بمالي إلى استحضار الدور الفرنسي في أية عملية تغيير بالبلاد.
صحيح أنه ثمة متغيرات جديدة أصبحت تقف أمام التدخل الفرنسي المكشوف في شؤون البلاد، ففرنسا تواجه منذ أشهر تحديات عميقة تتمثل في تنامي موجة من الرفض الشعبي لدي قطاعات واسعة من القوي الشبابية و الفنية و السياسية و فاعلي المجتمع المدني بدول في غرب إفريقيا مطالبة بوضع محددات جديدة و معالم تُوجه بوصلة علاقات فرنسا بإفريقيا على أسس تضمن السيادة و الخروج من عباءة التبعية و الاستقلال الفعلي لإفريقيا عن فرنسا الاستعمارية.
و قد زادت موجة الكراهية الشعبية تجاه فرنسا مع تصاعد أعمال العنف في منطقة الساحل.و لم يتجاهل الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون أثناء زيارته الخاطفة للنيجر في نهاية ديسمبر 2019 للمشاركة في مراسيم تشيع عسكريي النيجر الذين توفوا في هجوم انتالس هذه الحقيقة، فقد قال ماركون انه يتابع حراك لقوي معارضة ومجموعات تنتقد الحضور الفرنسي و تصفه بالإمبريالي و الاستعماري، لكن ماكرون اعتبر أن هدف فرنسا من الحضور العسكري في منطقة الساحل هو توفير الأمن و الاستقرار.
و تقف خلفيتان رئيسيتان وراء موجة الكراهية ضد فرنسا، فشرائح عريضة من ساكنة الساحل لا تفهم عدم المشاركة الفاعلة لقوة “بارخان” في العمليات القتالية ضد الجماعات الجهادية، رغم ما تمتلكه من معدات عسكرية ضخمة تفوق قوة و عتاد الجماعات الجهادية من جهة، و من جهة أخري تتناغم هذه الموجة مع بروز تيار شبابي جديد بمنطقة غرب إفريقيا مشبع بأفكار قومية افريقية تري في فرنسا قوة استعمارية أضرت بتنمية إفريقيا و أعاقت نهضتها و سلبتها خيراتها و حريتها و سيادتها.
إلا انه، و مع كل هذا فإن فرنسا تبقي القوة الرئيسية التي تتحكم في هندسة خارطة القوي المؤثرة و المتحكمة في السلطة بمالى، و لعل زعماء الحراك فهموا هذه الحقيقة جيدا حين اسقطوا من مطالبهم، مطلب رحيل القوي الأجنبية عن البلاد، و هو مطلب كان يحرك القوي السياسية قبل فترة قريبة من الزمن.
لقد أصبح من الصعب على فرنسا في الآونة الأخيرة الوقوف في وجه إرادة الشارع بإفريقيا، فهي لم تعد مستعدة للمزيد من الانكشاف و مراكمة المزيد من الفشل في رصيدها المتعلق بمصادرة حريات و خيارات الشعوب الإفريقية. و عليه فإن استمرار الحراك و فاعلية في المستقبل هي ما سيحسم الكفة التي سيميل إليها موقف فرنسا، فإذا انتصرت إرادة الشارع على الرئيس كيتا فإن فرنسا لحظتها لن تترد في التخلص من الرئيس كيتا.
سيدي ولد عبد المالك-كاتب مهتم بالشأن الإفريقي