إيگيو و لمرابط
من الإسهامات الثقافية-الاجتماعية المهمة لـ إيگاون في تاريخ البلاد: العمل على ترسيخ قِيَم احترام الزوايا وإكرامهم وإكبارهم وكف اليد عن أموالهم.
فبما لدى الفنانين من نفوذ إعلامي و”قوة ناعمة” لدى السلطة السياسية والعسكرية وفي عموم المجتمع بفضل “سلاح اللسنة”، ساهموا في تكريس “احترام الزوايا” ضمن قيم التفاضل بين أهل الشوكة، عن طريق تسليط الضوء على هذه القيمة ضمن صفات الشخصيات “النموذجية” الممدوحة، فالإمارة والزعامة والتميز ليست بالقوة العسكرية وحدها، ولا بالكرم والشجاعة ونحوها من القيم “الكونية” المعهودة في مثل هذه السياقات، بل لا بد أن يتفوق المرء بشيء آخر على نظرائه، وهو احترام الزوايا.
وكما أنه “كافي من الشمت حد ما انشكر” فكذلك يكفي من الذم أيضاً ألاّ يكون المرءُ متصفاً بهذه الصفات التي لا يكاد يخلو منها إنتاج أي إيگيو من الرعيل الأول، وهو ما يزيد من التنافس في السعي للاتصاف بها وتَمثلها، بهدف الوصول إلى الصورة النموذجية التي يستحق صاحبها المدح.
قد يقال إن الزوايا لديهم من الوسائل “الظاهرة والباطنة” ما يكفي لحماية أنفسهم ودرء المفاسد وجلب المصالح (ولا يقتصر ذلك على نفوذهم العلمي والروحي، بل يمتد الأمر إلى توظيف الأدب لتحقيق “اختراق قيمي” في صفوف أهل الشوكة، عن طريق مدح ورثاء شخصيات أميرية معيّنة تحترم الزوايا وتكرمهم) لكن دور إيگاون الإعلامي في إيصال هذه الأفكار وترسيخها دور مشهود -يمكن أن يسارع البعض إلى اعتباره من كرامات الزوايا على أي حال ههه- ولدورهم هذا تأثيره القوي، خصوصاً أن الفنانين غالباً جزء من بلاط السلطة الزمنية، وخطابهم أوسع انتشاراً بين مختلف فئات المجتمع لاعتماده على اللهجة العامية، خلافاً للفصحى التي قد لا يتجاوز تأثيرها مضارب منتجي أشعارها.
كما أن إيگاون “طرف ثالث” غير متّهم، وليست له مصلحة مباشرة في الأمر، ولذلك أهميته في قوة الخطاب وإقناعه.
من أبرز الأمثلة في هذا الميدان قول سدوم ولد انچرتو في مدح الأمير لمباركي عثمان ولد هنون لعبيدي (وقيل غيره) والتنويه بفرسه:
فَرْص أفگراش انجوع أَگَيلْ/ أخيار الحلة واتيسها
ماهي فرْص أفگراش ابْخيل/ إدور ابّاش إرخّسها
نَعرفْ يوم من أيام الويل/ نَفّسْتو فيه ؤنَفّسْها
هو نَفّسْها بيه ارجيل/ ؤهيّ زاد اطويل انفسها
إلى أن يقول، وهذا محل الشاهد:
ؤلا گط امدينت شَرْح اخليل/
اعل مُدارَ نَـقّسْها (مداراة)
فهو -كما يقول- لا يستعمل فرسه (قوته العسكرية) لكي ينال المداراة من الزوايا، وهي ما يقدمونه من أعطيات لمن يخشون بطشه من أهل الشوكة، وهنا يرسخ سدوم فكرة أن الأمير لكي يكون أميراً حقاً ويتميز عن غيره وتكتمل فروسيته، لا بد أن يأنف مِن مثل هذه الأفعال التي لا تليق بالكبار كما يروم النص تصويرهم.
- وفي بَت السلطان المباركي خطري ولد اعمر ولد اعلي ولد اعمر ولد هنون بن بهدل (مرحبتي بالسلطان) يقول أحد فنانيه:
مرحبت اغيود النيلْ/ والطماع الثقيلْ
ويا مرحبت أهل اخليل/ واتلاميد القرآنْ
ويا مرحبت امراسيل/ إجكــّـو بالگدحان
ويباتو عُـگْبْ الليل:/ “افْلانْ افْلانْ افْلانْ”
فقدوم الأمير خطري، مدعاة لفرح أهل الفقه “مختصر خليل” وقرّاء القرآن، لما يعهدونه فيه من التقدير والإكرام.
وهنا يربط إيگيو بين احترام الزوايا وبين خصال مركزية في المنظومة القيمية المحلية، كالسخاء مثلاً، بحيث يصبحان متلازمين ضمن شروط التميز، فكما أن الأمير “النموذجي”، وفق هذه المنظومة، لا يمكن أن يكون إلا جواداً سخياً، فهو أيضاً لا بد أن يقدر الزوايا ويحترمهم ويكرمهم.
- ويقول سدوم في مدح الزعيم الإدوعيشي محمد ولد بكار ولد اعمر ولد امحمد بن خونا، بعد أن أسهب في وصف قوته وبأسه:
..ؤلا يِفْلش مَكرو ماهي ريمْ/ ولّ شاعر گايلْ مَدحة
شاكر، ولّ طالب حليم/ عينو عن هذا منطرحة
فربطُ قيمة الشجاعة والبأس في الحروب، وهي من أهم القيم لدى أهل الشوكة إن لم تكن أهمها على الإطلاق، بخصلة احترام الطلبة وعدم التعرض لهم بسوء، له تأثيره البالغ في إبراز هذه الخصلة ونَمْذَجتها (بغض النظر هنا عن التمييز في بعض السياقات أو الإطلاقات بين مفهومي الزوايا والطلبة، فالمقصود بالاستشهاد هنا هو القدر المشترك والمفهوم العام).
- وفي مدح عثمان ولد اعلي بابي ولد اعمر ، يذكر سدوم من خصاله أنه لا يعتدي على القوافل ولا يظلم أهلها، وهم في الغالب من الزوايا، ولا يأخذ من أموالهم:
..أيدو مصگولة وانگيّة/ من لِيل الگارب والمَگطرْ
وامدينت كــَم من زاويّة/ ؤزاوي فاطمعهم ما يَحظر
- ومن هذا الباب أيضاً، قول اشويبة منت انگذي في مدح الأمير البركني سيدي اعلي ولد أحمدو، في إحدى الطلع الشهيرة المظايرات اعل الگاف:
مارت عن فيك امطابگة/ لِمارَ عن لِمارَ
اللي عن شكرك ما ابگَ/ شَكــّـار ؤلا شَكــّـارة
تقول:
واكْرِيم ؤلانك فَيتّاتْ/ وأديب اتطوّل فالسكاتْ
ؤتِحْيي شي كامل زينْ ماتْ/ عنو لطفال اصكارَ
والطلبة فيهم ما اتبات/ وابلا فيهم مُدارَ (مداراة)
والنصوص في هذا الميدان أكثر من أن تُحصر، ولا يكاد يغيب هذا المعنى في إنتاج أي إيگيو، بمختلف طبقاتهم التاريخية.